يقول الحافظ ابن رجب الحنبلي رحمه الله: "ما دام الإنسان يأمل الحياة فإنه لا يقطع أمله من الدنيا، وقد لا تسمح نفسه بالإقلاع عن شهواتها. الشيطان يغريه بالتوبة في آخر عمره، فإذا جاء الموت،...

الغفلة

حتى لا نبتلى بها

ربما ينشغل المسلم بشواغل الدنيا، ولا يدري مواطئ قدميه التي ربما تنجرفان به نحو مطامع الدنيا أو تنزلقان في متعها وشهواتها، أو تغو صان في وحلها، وقد غفل أو تغافل عن وصفها الذي وصفها الله به، حيث قال: “اعلموا أنما الحياة الدنيا لعب ولهو وزينة وتفاخر بينكم وتكاثر في الأموال والأولاد”، لكنه على الرغم من ذلك غلبته الغفلة، التي حذر الله تعالى منها، حيث قال: “اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ. مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ . لَاهِيَةً قُلُوبُهُمْ” وقال تعالى: “وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ”
هذه الآيات وغيرها تؤكد على الحقيقة المطلقة، وهي أن القرآن الكريم شاهد على أحوال الناس، وهو في الوقت ذاته منه لهم وموقظ من التمادي في الغفلة، ففي مواضع كثيرة يلفت الانتباه إلى خطورة طريق الغفلة، ورغم ذلك  يغرق البعض فيها الغفلة، فنسأل: أين الناس من المساجد؟ أين الشباب من تعلم العلم والقرآن؟ أين المسلمون من الدعاء لله لرفع البلاء عن الأمة؟ يبدو أن الناس اليوم يفرون من الله بدلًا من الفرار إليه. بل هناك من يجاهر بعدم رغبة الحكم بشرع الله، فلماذا؟ السبب هو الغفلة التي تسيطر على العقول وتفسد القلوب، غفلة عن العودة إلى الله، عن التوبة، عن الطاعة، عن الذكر، وعن رد المظالم. أحذر نفسي وإخواني من هذا الداء الخطير، الذي إذا تمادى فيه الإنسان، أورثه ندامة لا تنقطع إلا برحمة الله.

يقول الحافظ ابن رجب الحنبلي رحمه الله: “ما دام الإنسان يأمل الحياة فإنه لا يقطع أمله من الدنيا، وقد لا تسمح نفسه بالإقلاع عن شهواتها. الشيطان يغريه بالتوبة في آخر عمره، فإذا جاء الموت، ندم على تفريطه، وطلب الرجعة إلى الدنيا ليتوب ويعمل صالحًا، فلا يُجاب.” وقد قال الله تعالى: “أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَى عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ”. يتضح من هذا أن الغفلة عن ذكر الله والطاعة والابتعاد عن المعاصي تفتح باب الحسرة في الدنيا والآخرة.
الغفلة هي السهو الذي يصيب الإنسان بسبب قلّة التحفّظ واليقظة. حقيقتها تتمثل في الانغماس في الدنيا وشهواتها ونسيان الآخرة، حتى يصبح الإنسان وكأنه بلا عقل أو بصيرة، فلا يتأثر بالآيات الشرعية أو الكونية. قال تعالى: “وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ”. الغافل ينشغل بعمارة الدنيا وينسى الآخرة، ويغفل عن التوبة، فيمضي حياته يجمع المال بطرق حلال وحرام، ولا يلتفت إلى الآخرة إلا حين يُفوت الأوان.
لذلك علينا جميعا أن ننتبه إلى تلك الإمارات التي تؤشر على الغفلة، خاصة أن كثيرا من الغافلين لا يعلمون أنهم في غفلة، وربما وصلوا لدرجة أولئك الذين وصفهم الله تعالى بأنهم الأخسرين أعمالا، وهو في الحقيقة وصف مخيف وكفيل بأن يوقظك من الغفلة، ثم يعرفك الله تعالى لماذا هؤلاء هم “الأخسرين أعمالا”، فيقول “الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا”.

لذلك عليك أخي المسلم أن تبذل الجهد لتعرف إن كنت منهم، فانظر إلى وقتك: هل تتحسر على يوم انقضى دون طاعة؟ هل يمر عليك الوقت دون إحساس بالمسؤولية تجاه الطاعة؟ الغافل لا يُبالي بإضاعة وقته ولا يستغل عمره فيما ينفعه في الآخرة.
ولا يتوقف الأمر أخي المسلم على أن تكتفي بالعرف على علامات الغفلة، بل عليك أيضا أن تعرف أسبابها.

ولعل السبب الأوضح من أسباب الغفلة: طول الأمل، فهو من مداخل الشيطان، حيث يغري الإنسان بأن لديه الكثير من الوقت للتوبة والعمل الصالح، فيؤجلها ويستمر في المعاصي والشهوات. وقد قال الله تعالى: “إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا وَنَرَاهُ قَرِيبًا”. طول الأمل يُنسي الإنسان الآخرة ويجعله غارقًا في الدنيا.

ومن أسباب الغفلة أيضا، حب الدنيا، حيث قال تعالى عن أهل الغفلة: “يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ”. هذا الصنف من الناس منشغل بجمع المال وتحقيق المكاسب الدنيوية دون أن يفكر في آخرته. قال النبي صلى الله عليه وسلم: “إن الدنيا حلوة خضرة، وإن الله مستخلفكم فيها لينظر كيف تعملون، فاتقوا الدنيا”.

ثم السبب الأخطر والأكثر انتشارا في عصرنا، وهو اتباع الهوى، فبعض الناس يجعل هواه هو الحاكم في حياته، فيتبع شهواته ويتجاهل الدين، كما قال الله تعالى: “أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَٰهَهُ هَوَاهُ”.
لذلك علينا أخي المسلم أن ننتبه إلى أن الغفلة تفتح باب تسلط الشياطين على الإنسان، فيغرق في الذنوب والمعاصي. قال الله تعالى: “وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَٰنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ”. الإنسان الغافل يفقد طاقته وهمّته العالية ويغرق في حياة تافهة، حيث يفوت عليه العمر بلا طاعة ولا استعداد للآخرة، حتى يأتيه الموت فجأة، فيندم حين لا ينفع الندم.

ذات صلة

الصبر

الصبر هو مفتاح الفرج، وبه يرتقي المؤمن في درجات الإيمان، ويرضى بقضاء الله وقدره مهما اشتدت به المحن أو نزلت

المزيد »

منهج حياة

إنها صورة جميلة تُجسد التراحم بين المؤمنين، كالجسد الواحد الذي يشعر بألم أي جزء منه. فإذا رأيت أخاك المسلم في

المزيد »

تواصل معنا

شـــــارك